من لوازم خلود الشريعة الإسلامية وبقاءها إلى نهاية الزمان أن تكون شاملة لجميع جوانب الحياة، وأن تكون عامة لكل الناس، ولمختلف الثقافات والحضارات، لذا لابد أن تتجسد صلاحيتها في واقع الحياة الملموس، وأن تكون لبعض أحكامها القابلية لإعادة النظر والمراجعة، بما يحقق مقاصد الشريعة ومصالح العباد .
من أجل هذا بدأ الداعية الدكتور عبد الرقيب الشامي (دكتوراه مقاصد الشريعة الإسلامية – أصول الفقه) سلسلة محاضراته التي عنونها باسم : فقه تنزيل الأحكام، التي تعنى في المقام الأول بتبيان الفرق بين نوعين من الأحكام الشرعية ؛ الأحكام القطعية الثابتة والمعلومة من الدين بالضرورة، والأحكام الأخرى المتغيرة بتغير الظروف والمصالح حسب كل عصر، ووفقا لتقديرات العلماء الثقات .
- الاستخلاف في الأرض
يرى د.الشامي أن الله عز وجل أوكل للإنسان مهمة ووظيفة محددة عندما خلقه ؛ وهي الاستخلاف في الأرض، والاستخلاف يقوم على ركيزتين ؛ الأولى تحقيق العبودية لله عز وجل مصداقا لقوله تعالى : " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " . والركيزة الثانية هي عمارة الأرض واستثمارها واستصلاحها، بما يحقق للبشرية الخير والصلاح، ويدفع عنها الشرور والمفاسد، وهذه أشار إليها سبحانه بقوله : "هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا " .
وحتى تتحقق مهام الاستخلاف وعمارة الأرض كان لابد وأن يزود الله الإنسان بجملة من المزودات، فسخر له ما في الأرض، وهذا التسخير من أجل خدمة القضية التي خلق من أجلها، فمن رحمة الله عز وجل أنه لم يخلق الإنسان ثم تركه هملا، وإنما زوده بفطرة الخير، ورزقه العقل حتى يستطيع الاختيار على بصيرة، ثم عزز هذا كله بعاصم يجعله يعود إلى الطريق القويم كلما حاد عنه، هذا العاصم هو الوحي، وإرسال الأنبياء والرسالات التي تساعد على إصلاح الاختلالات وتصحيح الأوضاع الفاسدة التي تنشأ في المجتمعات على مر التاريخ، واشتقاق الأحكام والبرامج التي تدير شئون العباد وفق مراد الله ومنهاجه .
- الدين والتدين
يقول الدكتور عبد الرقيب الشامي أن ثمة فرق بين الدين والتدين، فالدين هو الوحي المتمثل في القرآن والسنة النبوية المطهرة، وهو كامل لا يعتريه نقص ولا يشوبه عيب . أما التدين، فهو كسب بشري يتصف بالمحدودية والنسبية، لأن الإنسان - مهما يكن - تظل به بعض صفات النقص، بسبب العجز، أو الجهل، أو القصور في فهم وتطبيق أحكام الله .
وقد شبه الدكتور الشامي، المسلم المتدين حافظ الفقه بالصيدلي، الذي يعلم ويحفظ مختلف أنواع وأصناف الدواء، ويطبقها دون قياس أو استنباط على ظروف الواقع . بينما شبه الفقيه المجتهد بالطبيب الذي يخضع حالة كل مريض لدراسة مستقلة، ليتبين نوع العلاج الملائم له، ويؤكد أننا في عصرنا هذا أحوج ما نكون إلى الفقيه المجتهد المجدد .
- أحكام النص والاجتهاد
والأحكام الشرعية تعتمد - حسبما أوضح د.عبد الرقيب - على مصدرين ؛ إما تعتمد على نصوص شرعية مباشرة، أو أن يكون مصدرها اجتهاد شرعي معتبر .
أما الأحكام التي تقوم علي نصوص مباشرة فقد جاءت على أربعة أشكال :
أن يكون مصدرها نصاً قطعي الثبوت قطعي الدلالة .
أو أن يكون مصدرها نصاً قطعي الثبوت ظني الدلالة .
أو أن يكون مصدرها نصاً ظني الثبوت قطعي الدلالة .
أو أخيرا يكون مصدرها ظني الثبوت ظني الدلالة .
ولمزيد من الإيضاح أورد الدكتور عبد الرقيب مثالا لكل حالة . فالآية الكريمة :"وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا " مثالا للنوع الأول من النصوص، القطعي الثبوت قطعي الدلالة، حيث أنه لا يختلف اثنان على أن الصيغة اللفظية واضحة ومفسرة ولا إشكال فيها، وتدل على حكمين واضحين لا لبس فيهما ؛ حل البيع وحرمة الربا، فهذا أمر مقطوع به لا شك فيه .
والمرتبة الثانية هي ما ثبت بنص قطعي الثبوت ظني الدلالة، بمعنى أن دلالته مع المراد، وفي الحكم تحتمل أكثر من معنى، لكن لهذه الاحتمالات سقف لا يمكن تجاوزه، بحيث لا يعبث بالنص ويحرف بتفسيرات غير سائغة، ومهمة المجتهد هي أن يتخير مابين الاحتمالات ما يراه أقرب إلى مراد الشارع، كمثال الآية :"وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ " دلت هذه الآية على أن عدة الزوجة ثلاثة قروء، فالعرب قديما كانوا يطلقون لفظة (القرء) على الحيض وعلى الطهر على السواء، وهنا اختلف العلماء حول المعنيين، وكل طرف رجح رأيه بدلالة حسب ظنه .
المسألة الثالثة تتعلق بالنصوص ظنية الثبوت قطعية الدلالة، وهي النصوص والمرويات التي وصلت لنا بطريقة التواتر، كأخبار الآحاد التي تحمل معنى قطعي، عندها يمكن دراسة ثبوتية الرواية وفقا لضوابط الصحة والضعف التي وضعها العلماء، دون التعرض للدلالة لأنها ذات معاني واضحة، مثال : الحديث " ليس ما دون خمس زود من الإبل صدقة" هنا صرح الرسول بلفظ واضح أن النصاب للإبل خمس فقط، وما دونه لا يستحق زكاة .
الحالة الرابعة هي النصوص ظنية الثبوت ظنية الدلالة، وهي معظم روايات السنة النبوية، كمثال الحديث :" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب. " فاختلف العلماء حول دلالة هذا النص، هل هو لنفي الصحة ؟ أم هو لنفي الكمال ؟ وكل واحد من الدارسين لهذا الحديث رجح وجهة نظر مختلفة تبعا لفهمه لدلالة النص الظنية .
الطريق الآخر في فقه تنزيل الأحكام هو الاجتهاد، وله مرتبتان : القياس والاستنباط، القياس هو تبيان الأحكام الشرعية لمسألة ما قياسا على أن لها نظيرا منصوص عليه في القرآن والسنة، مثال لذلك قضية تحريم الخمر، فلدينا نص يقطع بتحريم تناول الخمر تماما، فإذا ما ظهرت في عصرنا الحديث عقاقير ومخدرات تذهب العقل وتحدث نفس الأثر على متناولها، فإن حكمها هو التحريم قياسا على حكم معاقرة الخمر.
المرتبة الثانية بعد القياس هي الاستنباط، وهو كل ما لم يرد به نص صريح أو حكم ثابت، هنا صار على المجتهد أن يستلهم منهج الشارع، ويستنبط حكما شرعيا يراه أقرب لمقاصد الشريعة وفقا لضوابط العلماء الأولين .
وعليه فإن الدكتور عبد الرقيب يرى أن تقسيم الأحكام وفقا لمقاصد التنزيل من شأنه أن يبقى الشريعة خالدة ومسايرة للتغيرات التي تطرأ على حياة المسلمين في كل زمان ومكان، فمن غير المقبول - في رأي فضيلته - أن يفتي عالم في عصرنا الحالي بعدم وجوب علاج المرأة على نفقة زوجها استنادا إلى فتوى قديمة تغيرت بتغير الأحوال والظروف من عصر إلى عصر .
وأخيرا، نتقدم بالشكر للداعية الإسلامي الدكتور عبد الرقيب الشامي على ما تفضل به من شرح واف لفقه أحكام التنزيل .
من لوازم خلود الشريعة الإسلامية وبقاءها إلى نهاية الزمان أن تكون شاملة لجميع جوانب الحياة، وأن تكون عامة لكل الناس، ولمختلف الثقافات والحضارات، لذا لابد أن تتجسد صلاحيتها في واقع الحياة الملموس، وأن تكون لبعض أحكامها القابلية لإعادة النظر والمراجعة، بما يحقق مقاصد الشريعة ومصالح العباد .
من أجل هذا بدأ الداعية الدكتور عبد الرقيب الشامي (دكتوراه مقاصد الشريعة الإسلامية – أصول الفقه) سلسلة محاضراته التي عنونها باسم : فقه تنزيل الأحكام، التي تعنى في المقام الأول بتبيان الفرق بين نوعين من الأحكام الشرعية ؛ الأحكام القطعية الثابتة والمعلومة من الدين بالضرورة، والأحكام الأخرى المتغيرة بتغير الظروف والمصالح حسب كل عصر، ووفقا لتقديرات العلماء الثقات .
- الاستخلاف في الأرض
يرى د.الشامي أن الله عز وجل أوكل للإنسان مهمة ووظيفة محددة عندما خلقه ؛ وهي الاستخلاف في الأرض، والاستخلاف يقوم على ركيزتين ؛ الأولى تحقيق العبودية لله عز وجل مصداقا لقوله تعالى : " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " . والركيزة الثانية هي عمارة الأرض واستثمارها واستصلاحها، بما يحقق للبشرية الخير والصلاح، ويدفع عنها الشرور والمفاسد، وهذه أشار إليها سبحانه بقوله : "هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا " .
وحتى تتحقق مهام الاستخلاف وعمارة الأرض كان لابد وأن يزود الله الإنسان بجملة من المزودات، فسخر له ما في الأرض، وهذا التسخير من أجل خدمة القضية التي خلق من أجلها، فمن رحمة الله عز وجل أنه لم يخلق الإنسان ثم تركه هملا، وإنما زوده بفطرة الخير، ورزقه العقل حتى يستطيع الاختيار على بصيرة، ثم عزز هذا كله بعاصم يجعله يعود إلى الطريق القويم كلما حاد عنه، هذا العاصم هو الوحي، وإرسال الأنبياء والرسالات التي تساعد على إصلاح الاختلالات وتصحيح الأوضاع الفاسدة التي تنشأ في المجتمعات على مر التاريخ، واشتقاق الأحكام والبرامج التي تدير شئون العباد وفق مراد الله ومنهاجه .
- الدين والتدين
يقول الدكتور عبد الرقيب الشامي أن ثمة فرق بين الدين والتدين، فالدين هو الوحي المتمثل في القرآن والسنة النبوية المطهرة، وهو كامل لا يعتريه نقص ولا يشوبه عيب . أما التدين، فهو كسب بشري يتصف بالمحدودية والنسبية، لأن الإنسان - مهما يكن - تظل به بعض صفات النقص، بسبب العجز، أو الجهل، أو القصور في فهم وتطبيق أحكام الله .
وقد شبه الدكتور الشامي، المسلم المتدين حافظ الفقه بالصيدلي، الذي يعلم ويحفظ مختلف أنواع وأصناف الدواء، ويطبقها دون قياس أو استنباط على ظروف الواقع . بينما شبه الفقيه المجتهد بالطبيب الذي يخضع حالة كل مريض لدراسة مستقلة، ليتبين نوع العلاج الملائم له، ويؤكد أننا في عصرنا هذا أحوج ما نكون إلى الفقيه المجتهد المجدد .
- أحكام النص والاجتهاد
والأحكام الشرعية تعتمد - حسبما أوضح د.عبد الرقيب - على مصدرين ؛ إما تعتمد على نصوص شرعية مباشرة، أو أن يكون مصدرها اجتهاد شرعي معتبر .
أما الأحكام التي تقوم علي نصوص مباشرة فقد جاءت على أربعة أشكال :
أن يكون مصدرها نصاً قطعي الثبوت قطعي الدلالة .
أو أن يكون مصدرها نصاً قطعي الثبوت ظني الدلالة .
أو أن يكون مصدرها نصاً ظني الثبوت قطعي الدلالة .
أو أخيرا يكون مصدرها ظني الثبوت ظني الدلالة .
ولمزيد من الإيضاح أورد الدكتور عبد الرقيب مثالا لكل حالة . فالآية الكريمة :"وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا " مثالا للنوع الأول من النصوص، القطعي الثبوت قطعي الدلالة، حيث أنه لا يختلف اثنان على أن الصيغة اللفظية واضحة ومفسرة ولا إشكال فيها، وتدل على حكمين واضحين لا لبس فيهما ؛ حل البيع وحرمة الربا، فهذا أمر مقطوع به لا شك فيه .
والمرتبة الثانية هي ما ثبت بنص قطعي الثبوت ظني الدلالة، بمعنى أن دلالته مع المراد، وفي الحكم تحتمل أكثر من معنى، لكن لهذه الاحتمالات سقف لا يمكن تجاوزه، بحيث لا يعبث بالنص ويحرف بتفسيرات غير سائغة، ومهمة المجتهد هي أن يتخير مابين الاحتمالات ما يراه أقرب إلى مراد الشارع، كمثال الآية :"وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ " دلت هذه الآية على أن عدة الزوجة ثلاثة قروء، فالعرب قديما كانوا يطلقون لفظة (القرء) على الحيض وعلى الطهر على السواء، وهنا اختلف العلماء حول المعنيين، وكل طرف رجح رأيه بدلالة حسب ظنه .
المسألة الثالثة تتعلق بالنصوص ظنية الثبوت قطعية الدلالة، وهي النصوص والمرويات التي وصلت لنا بطريقة التواتر، كأخبار الآحاد التي تحمل معنى قطعي، عندها يمكن دراسة ثبوتية الرواية وفقا لضوابط الصحة والضعف التي وضعها العلماء، دون التعرض للدلالة لأنها ذات معاني واضحة، مثال : الحديث " ليس ما دون خمس زود من الإبل صدقة" هنا صرح الرسول بلفظ واضح أن النصاب للإبل خمس فقط، وما دونه لا يستحق زكاة .
الحالة الرابعة هي النصوص ظنية الثبوت ظنية الدلالة، وهي معظم روايات السنة النبوية، كمثال الحديث :" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب. " فاختلف العلماء حول دلالة هذا النص، هل هو لنفي الصحة ؟ أم هو لنفي الكمال ؟ وكل واحد من الدارسين لهذا الحديث رجح وجهة نظر مختلفة تبعا لفهمه لدلالة النص الظنية .
الطريق الآخر في فقه تنزيل الأحكام هو الاجتهاد، وله مرتبتان : القياس والاستنباط، القياس هو تبيان الأحكام الشرعية لمسألة ما قياسا على أن لها نظيرا منصوص عليه في القرآن والسنة، مثال لذلك قضية تحريم الخمر، فلدينا نص يقطع بتحريم تناول الخمر تماما، فإذا ما ظهرت في عصرنا الحديث عقاقير ومخدرات تذهب العقل وتحدث نفس الأثر على متناولها، فإن حكمها هو التحريم قياسا على حكم معاقرة الخمر.
المرتبة الثانية بعد القياس هي الاستنباط، وهو كل ما لم يرد به نص صريح أو حكم ثابت، هنا صار على المجتهد أن يستلهم منهج الشارع، ويستنبط حكما شرعيا يراه أقرب لمقاصد الشريعة وفقا لضوابط العلماء الأولين .
وعليه فإن الدكتور عبد الرقيب يرى أن تقسيم الأحكام وفقا لمقاصد التنزيل من شأنه أن يبقى الشريعة خالدة ومسايرة للتغيرات التي تطرأ على حياة المسلمين في كل زمان ومكان، فمن غير المقبول - في رأي فضيلته - أن يفتي عالم في عصرنا الحالي بعدم وجوب علاج المرأة على نفقة زوجها استنادا إلى فتوى قديمة تغيرت بتغير الأحوال والظروف من عصر إلى عصر .
وأخيرا، نتقدم بالشكر للداعية الإسلامي الدكتور عبد الرقيب الشامي على ما تفضل به من شرح واف لفقه أحكام التنزيل .